إنجازاتنا هي أعمارنا
الحمد لله الذي أمدنا بعونه ويسَّر لنا سبل العيش في أرضه وأفاض علينا من وافر نعمه وصلى الله وسلم على الهادي محمد وعلى آله وصحبه وسلم ثم أما بعد :
تمُرُّ أيام العمر سراعاً ، وفي غمضة عينٍ وانتباهتها سيقال مات فلان لأن البقاء لله وحده
{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [القصص : 88]
ومهما طال العمر فسينقضي وقد روي أن نوحاً عليه الصلاة والسلام سئل: كيف رأيت الدنيا وقد عشت فيها ألف سنة، قال كرجلٍ بني داراً لها بابان دخل مع أحدهما وخرج مع الآخر.
نعم كل شئ سينقضي فإنه لا متعة فيه _ أي باقية _ ولهذا علَّق الله قلوب المؤمنين بالآخرة الباقية،وزهدهم في الدنيا الفانية وكثيراً ما يُذكرهم بهذا المعنى في مثل قوله تعالى:{ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39] ويقول سبحانه: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:64] وكقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ }[ التوبة: 38] وكقوله سبحانه: { اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ}[الرعد:26] وكقوله جلَّ ذكره
: { الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ }[إبراهيم:3] وكقوله عزَّ من قائل:{ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[القصص:60] والآيات كثيرة في هذا المعنى فهل هذا عبثٌ لا والله بل ليكون المؤمن على أهبة الاستعداد للنقلة ولكي لا يُغبن في البيع فيبيع الباقي بالفاني فهل وعينا درس القرآن.
إن مجرد التفكر في اسم الدنيا يُشعر أصحاب الألباب الحية _ نسأل الله أن نكون منه _ بدنوِّها وحقارتها وأنها لا تستحق أن تتعلق بها النفوس الشريفة، ولا الأطماع العريضة ولذا ترفَّع عنها الصحب الكرام _ رضي الله عنهم وأرضاهم _ ومن تبعهم بإحسان لأنهم عرفوا حقيقتها لكنهم في ذات الوقت لم ينزووا عن حضارتها، ولم يستنكفوا عن مشاركة الأخيار بناءها فسطروا أروع المُثُل وبنوا أعظم امبراطورية عرفها التأريخ لأنهم فهموا معنى الاستخلاف وأن الدنيا إناءٌ لابد من أن يمتلئ إمَّا بحق أو بباطل وإما بخيرٍ أو شرٍّ فملأوا الدنيا بعبير إنجازاتهم وصلاح أعمالهم فهل نترسم خطاهم؟ أرجو ذلك.
إن حياة المرء الحقيقية هي ما يُخلفه خلفه من إنجازات الخير ، وصروح العطاء،وعندها يعيش المرء وهو مفقود، ويُذكر وهو غائب، فلله ما أعظم العطاء إذا كان لله، وما أجمل عبيره إذا كان من نسيم الآخرة.
إن المتفكر في حياة البشر لا يجد أعظم من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ملأت الأزمان والعصور من عبير أنفاسهم، وآثار أفعالهم وللمطالع لحياتهم أن يعي الدرس الذي ربَّى به المولى سبحانه أفضل خلقه – صلى الله عليه وسلم _ وهو يحثه على ترسم خطاهم واتباع سنتهم فيقول له عقب أن ذكر له ثمانية عشر نبياً من أفاضلهم :{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِين}[الأنعام:90] أما والله لو استغنى عن الاقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحدٌ لكمال عقل وتمام دينٍ وصلاح عملٍ لاستغنى محمد بن عبدالله _صلى الله عليه وسلم_ بأبي هو وأمي ونفسي فهل من متفكر؟! ولهذا تعرف مغزى ختم الآية ( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِين ) لتعلم أن المقصود بهذا التوجيه العالمين ونحن منهم.
نعم لقد سطروا _ عليهم الصلاة والسلام _ تاريخهم بأحرفٍ من نور لكنها تعمى عن أنوارهم كثير من خفافيش البشر، فهل فكرت _أخي القارئ وأختي القارئة_ أن تكتبا تاريخ حياتكما بنفسيكما وتتركا أثاركما التي تُذكر فتُشكر ؟ الجواب لديكما.
وكن رجلاً إن أتوا بعده *** يقولون مرّ وهذا الأثر
تعال معي إلى صفحات أناس نمر عليها مرور الكرام لعلنا نعتبر فهذا سعد بن معاذ رضي الله عنه { اهتزّ عرش الرّحمن لموته}،وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية خلّف ألفاً من الكتب والمجلّدات ,, تفرّغ الواحدة منها في أشهر !
وعطاء بن أبي رباح نام في المسجد { ثلاثين سنة } يطلب العلم. وهل تأملت كيف تُوفّي [ ابن باز ] رحمة الله عليه ,, وآثاره تعيش بيننا كأنّه معنا لايعزب ذكره الطّيب عن الألسن مثقال ذرّة عاش عظيما ومات عظيما ,, رحمة الله عليه
مات قوم وما ماتت مكارمهم *** وعاش قوم وهم في النّاس أمواتُ
ولا زال قومٌ يكتبون في صفحات التأريخ فهذا الدكتور عبد الرّحمن السّميط أسلم على يديه أكثر من خمسة ملايين نفس !!! بارك الله في عمره ونيته.
فأوَّاه ما أجبنَ النفس إذا أطيعت ، وما أشجعها إذا قيدت لله فإنها تصنع العجائب.
فما [ بضاعتنا ] يوم تعرض الأعمال على الله ؟
ماهي الآثار التي ستنسب إلينا بعد الموت ؟
وهل سيبقى ذكرنا مخلداً بها [ مابقيت السّموات والأرض ] ,,
أوّاه يا دنيا من { كثرة الرّاحلين ولا معتبر}
باتت حكايات الرّحيل وفصولها والسّتار المسدل أخيرا معروفاً للجميع
تتباين الأحداث
تتغيّر الأسماء
والنهاية فراق في فراق